صدر هذا الكتاب – المشار إليه في العنوان – عن منشورات كلية علوم التربية، سنة 2010، وهو كتاب قيم في بابه؛ إذ ضمنه المؤلف عصارة تجربته في ميدان التربية و التكوين. وهذا ما يجعل منه قيمة مضافة لمصاف الأبحاث التي أجريت في هذا الميدان.
سنحاول في ما سيأتي تبيان مميزات هذا المؤَلف، و الإشارة إلى بعض أفكاره الرئيسة، منطلقين من هذين السؤالين: ما الذي يميز مؤلف الدكتور محمد بازي هذا؟ ثم ما هي أبرز الأفكار الواردة فيه؟
1- مميزات الكتاب
• الخبرة و التجربة
إذا كان المثل المغربي الدارج يقول " سال المجرب لا تسال الطبيب"، فإن الدكتور محمد بازي اجتمع فيه الطبيب و المجرب؛ فقد مر من المرحلة التلاميذية فالطلابية ثم الأستاذية – هذا طبيعي- لكن الذي يعطيه ميزة في نظرنا هو تدريسه بالتعليم المدرسي و التعليم العالي ثم في حقل التكوين؛ فقد درس في بداية التحاقه بالتعليم في الإعدادي ثم الثانوي بضواحي زاكورة. كما درس أيضا مادة الثقافة الفنية بجامعة ابن زهر، ويعمل حاليا أستاذا بالمركز التربوي الجهوي بإنزكان. مما يعطي رؤيته لقضايا التربية و التكوين اتزانا، بل و يشرعن له الخوض في التنظير لها. وهذا ما جعل منه الطبيب والمجرب في الآن ذاته.
• مبدأ التعاون
نستعير هذا التعبير الغرايسي ( مبدأ التعاون نسبة إلى غرايس)، الذي نجده متجليا في هذا المؤلف بوضوح؛ إذ لم تتعد إفاداته القدر المطلوب، و لم يأت بإفادة من غير بينة، فقد كان حريصا على الاستدلال و استنطاق الشواهد. كما أن مقاله ظل مرتبطا بالمقام، مستندا في ذلك إلى ترتيب أفكاره، متجنبا الالتباس، متحاشيا الإسهاب.
أسعف الدكتور محمد بازي في بلوغ مرامه، اعتماده على لغة سلسة، دسمة بالتصوير. و هذه ميزة لا يخطئها القارئ لمؤلفات الدكتور محمد بازي، الذي يتلافى اللغة التقريرية الجافة. لغة تصويرية، نجدها منعكسة حتى في اختياره لعناوين فقراته و شاهد ذلك من هذا المؤلف قوله: " هذه النزعة الإحيائية [يقصد إحياء التصورات القيمة القديمة حول آداب المعلم والمتعلم و وظائفهما] لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما نحاول استكمال جوانبها من خلال بعض الأدبيات التربوية الحديثة، عبر قراءة تحليلية و تركيبية تحاول تشكيل بيت متكامل حول عناصر صناعة المدرس، و قد سميناه البيت العامر (...) لقد انعكس التفكير في هذا البيت العامر – بشكل أو بآخر- على تسميات الفصول و الفقرات؛ إنه بيت يقوم على مداخل و ممرات و رافعات و دعامات و أركان و شرفات و نوافذ و مشكاة و منارات و أسقف وباحات؛ و كل ذلك لجعل صناعة المدرس بنيانا حقيقيا متينا، و أصل العمل التربوي الناجح و أسه، و إذا صلح الأصل صلحت الثمرة، وإذا فسد فسدت" ، بهكذا طريقة يستثمر الدكتور بازي سحر الكتابة و فتنة التصوير للتجاوب مع القارئ.
2- قبس من الكتاب
يدور قطب الرحى في هذا المؤلف حول أطراف العملية التعليمية التعلمية، وينطلق فيه صاحبه من النبش في التراث العربي القديم، باعتباره منبعا يحوي نظريات تربوية بإمكانها أن تفيد في حقل التربية والتكوين إذا ما هي استثمرت أحسن استثمار، سيما وأن التعليم يعاني في البلدان العربية من ضباب في المرجعية على حد تعبير الدكتور بازي، عناوينه الكبرى الشتات المعرفي والمنهجي وموجة الموضة و الألوان التربوية.
يثير المؤلف جملة من القضايا، و لعل أهمها رهان التعليم، الذي صار مرتبطا بما هو دنيوي، والحال أنه لو " أسسنا وجودنا التعليمي على تحقق هذا المطلب [ ربط العلم بتحقيق السعادة الدنيوية و الأخروية] و بينا ذلك لتلامذتنا و طلبتنا لبصرناهم بالهدف الحقيقي من تلقي العلوم، ولذهبت آمالهم و مطامحهم أبعد مما تذهب إليه اليوم، غير أن كل دروسنا تتعلق بالعلم لذاته، بل أكثر من ذلك بمطالب دنيوية مثل تحصيل العلم ولقمة العيش" ، إنها دعوة صريحة إلى وجوب الاستناد إلى المرجعية الدينية الإسلامية، يوكدها بقوله " و تنوسيت المرجعية الإسلامية المتينة المتسعة للعلم و التربية في مختلف التوجهات المعرفية، رغم أن المرجعيات التربوية الرسمية تؤكد على ذلك بكل وضوح وشفافية" و بتعبير تصويري يقول " آنذاك [ حين اعتماد المرجعية العربية الإسلامية في المحتويات الدراسية والمذكرات...] يمكن أن نتكلم عن صناعة التعليم و أخلاقيات التعليم، لأنها تبدأ بالبحث عن الهوية أولا، أما الربان الذي يفقد البوصلة في عرض بحار البحث في هويات الآخرين فسيظل عرضة لتقلبات الرياح و الحظ ترمي به كل مرمى، و قليلا ما ينجو من هذا التيهان ويهتدي إلى السواحل الآمنة" ، أما الاستفادة من النظريات و الاجتهادات الغربية، فذاك أمر محمود من شأنه أن يقوي نظرياتنا التربوية، وهذه الاستفادة يجب " أن تتم وفق قراءة تؤمن بقوة المكونات الذاتية (...) لا قراءة الضعيف المنهزم الذي يفقد كل الثقة في تراثه و دينه وحضارته ولغته وإمكانيات بني جلدته" . و إن هذه الطروحات لم يطلقها على عواهنها، بل أسسها باستمداد مجموعة من الأمثلة المشرقة في حقل التربية و التعليم من التراث العربي ( ابن خلدون، الإمام مالك، أبو حنيفة، أبو حامد الغزالي، الشافعي).
و عموما يمكننا أن نلخص مضامين الكتاب، في المحاور الآتية:
المتعلم
ينبغي للمتعلم عدم التكبر على العلم أو التآمر على المعلم، و الإذعان لتوجيهاته و نصائحه، و أن يستوضح منه ما التبس عليه أو أشكل عليه فهمه، وقس على هذا.
المعلم
يجب أن يقترن علم المعلم بالعمل، فهو يمثل القدوة و النموذج، "متى استوى الظل و العود أعوج؟" ، فمتى رأى منه المتعلمون ما يجانب قوله، استهانوا به و ضربوا بعلمه و أقواله عرض الحائط، وزد على ما سلف تمتعه بالكفايات النفسية و الاجتماعية، التي تجعله قادرا على التواصل مع التلاميذ وفهم التصرفات الصادرة عنهم، دون إغفال الضمير المهني، الذي يجعل المعلم يتفاني في عمله، ويجعل من مادته فضاء صرفا للمعرفة، بعيدا عن النعرات الإيديولوجية و اللغوية...إلخ.
وفي هذا الصدد أيضا، تحدث الدكتور محمد بازي عن أهمية التحضير بالنسبة للمعلم، و ما له من انعكاسات إيجابية و سلبية. فالمعلم الذي لا يحضر دروسه كثيرا ما يكون عرضة للاستهتار والسخرية من قبل المتعلمين، بيدما يمكن التحضير من التحكم في مسار الدرس و يذلل صعابه.
علاقة المعلم بالمتعلمين
ينبغي للمعلم إنزال المتعلمين منزلة أولاده " فإذا كان الآباء سبب الحياة الفانية فإن المعلم سبب الحياة الباقية" ، و توجيههم وتحفيزهم والتدرج بهم في التعليم و مراعاة فروقهم الفردية، وفتح المجال أمامهم لإبداء آرائهم، و لا ينبغي له تجريحهم.
إن حب التخصص ليسهم في خلق قناة للود و الاحترام بين المعلمين و المتعلمين، ويساعدهم في تحبيب المادة إلى نفوس المتعلمين. وذلك بالتوسل بالآليات التكنولوجية الحديثة أو طرق ديداكتيكية معينة.
المعلم و مراكز التكوين
تلعب مدارس التكوين دورا رياديا في تكوين المعلمين، وها هنا نتحدث عن المكونين، الذين يشرفون على إعداد المتكونين لاكتساب القدرات التي تؤهلم للتكيف مع التحاقهم بفصول التدريس. و يمر هذا التكوين من أشواط نظرية و أخرى ميدانية، مع تمكينه من الاستقلال الذاتي.
و يقترح الدكتور بازي مجموعة من المعايير للولوج إلى المراكز التكوينية، كاعتماد بطاقات التحفيز التي تجيب عن دوافع اختيار المرشح لصناعة التدريس. فلا ينبغي أن يكون الولوج إلى التدريس مجرد الهروب من البطالة. إضافة إلى معايير أخلاقية و اجتماعية و لغوية وتقنية.كما يتطلب هذا التكوين توحيد الرؤى البيداغوجية للأساتذة المكونين. و في هذا الصدد يحذر المؤلف من عواقب التوظيفات المباشرة في قطاع حيوي كالتعليم .
يتبدى مما سلف دور المراكز التكوينية، و التي تحتاج إلى الرعاية، انطلاقا من تكوين المكونين، وتطعيمها بالكفاءات من ذوي الشهادات العليا، وكذا الرفع من سيولتها المالية. كما ينبغي لهذه المراكز أن تنفتح على محيطها الخارجي من خلال البحث العلمي و كذا تتبع خريجيها.
حاولنا بإيجاز شديد أن نستقرئ ما جاء به الدكتور محمد بازي في هذا المؤلف، و لا ندعي أننا بلغنا سدرة المنتهى في هذه القراءة، وعسى أن نكون قد بلغنا عن الدكتور بازي ولو آية.